كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ فَهِمَ مِنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2: 195) انْغِمَاسَ الرَّجُلِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيْعِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، وَأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا.
وَقَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (5: 105) وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا.
وَأَشْكَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنَ الْيَهُودِ هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ عَنِ السَّاكِتِينَ: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (7: 164) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَةً وَفَرِحَ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: مَا تَقُولُونَ فِي {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} (110: 1) السُّورَةَ قَالُوا: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تَقُولُ أَنْتَ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْفَهِمَ وَأَلْطَفِهِ وَلَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَلِّقِ الِاسْتِغْفَارَ بِعِلْمِهِ، بَلْ عَلَّقَهُ بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ نِعْمَةِ فَتْحِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، فَعَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْأَجَلِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَلْقَى رَبَّهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَيَقْدَمَ عَلَيْهِ مَسْرُورًا رَاضِيًا مَرْضِيًّا عَنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَائِمًا فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَمْرٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ الَّتِي تُرَقِّيهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ بَقِيَّةٌ فَأَمَرَهُ بِتَوْفِيَتِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَعَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فِي خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ فَشَرَعَهَا فِي خَاتِمَةِ الْحَجِّ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَشَرَعَ لِلْمُتَوَضِّئِ بَعْدَ كَمَالِ وُضُوئِهِ أَنْ يَقُولَ: «اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوعَةٌ عَقِيبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَ تَوْفِيَتِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، فَكَأَنَّ التَّبْلِيغَ عِبَادَةٌ قَدْ أَكْمَلَهَا وَأَدَّاهَا فَشَرَعَ لَهُ الِاسْتِغْفَارَ عَقِيبَهَا.
وَالْمَقْصُودُ تَفَاوَتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهِمَ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشْرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إِيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إِلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيُفْهَمُ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ. وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَهَذَا كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَمَا فَهِمَ الصِّدِّيقُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَأَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِالْجَدِّ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إِلَى هَذَا الْفَهْمِ حَيْثُ سَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ السُّؤَالَ فِيهَا مِرَارًا فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَى عُمَرَ قَوْلُهُ: {قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (4: 176) الْآيَةَ فَدَلَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ الْمُرَادَ مِنْهَا، وَهِيَ الآية.
الْأُولَى الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّهُ وَرِثَ فِيهَا وَلَدُ الْأُمِّ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِيهَا مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَإِنْ عَلَا. انْتَهَتِ الْمُقَدِّمَةُ.
أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّهُ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عِدَّةَ مَسَائِلَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ، وَهِيَ سِتُّ مَسَائِلَ فِي أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَقَدْ وَضَّحَ فِيهَا إِغْنَاءَ النَّصِّ عَنِ الْقِيَاسِ أَتَمَّ الْإِيضَاحَ.
مِثَالُ النُّصُوصِ الْكُلِّيَّةِ الْمُغْنِيَةِ عَنِ الْقِيَاسِ:
ثُمَّ زَادَ عَلَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ عِدَّةَ نُصُوصٍ كُلِّيَّةٍ يُغْنِي كُلٌّ مِنْهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَدَامَ اللهُ النَّفْعَ بِعِلْمِهِ وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» عَنْ إِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِالْقِيَاسِ فِي الِاسْمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّصِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (5: 38) عَنْ إِثْبَاتِ قَطْعِ النَّبَّاشِ بِالْقِيَاسِ اسْمًا أَوْ حُكْمًا، إِذِ السَّارِقُ يَعُمُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَعُرْفِ الشَّارِعِ سَارِقَ ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (66: 2) فِي تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إِلَّا بِنَصٍّ وَإِجْمَاعٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (5: 89) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ فَهَذَا كَفَّارَتُهَا، وَقَدْ أَدْخَلَتِ الصَّحَابَةُ فِي هَذَا النَّصِّ الْحَلِفَ بِالْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَلِفِ بِأَحَبِّ الْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ إِلَى اللهِ وَهُوَ الْعِتْقُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سِتَّةٍ مِنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ الْحَلِفَ بِالْبَغِيضِ إِلَى اللهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ تَحْكِيمُ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِعُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ إِجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا عَلَى خِلَافِهِ، فَالْأُمَّةُ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ أَلْبَتَّةَ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فِي إِبْطَالِ كُلِّ عَقْدٍ نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ وَأَنَّهُ لَغْوٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ نِكَاحًا كَانَ أَوْ طَلَاقًا أَوْ غَيْرَهُمَا، إِلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ إِجْمَاعًا مَعْلُومًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنَ الْعُقُودِ صَحِيحٌ لَازِمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ، فَهِيَ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (6: 119) مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ «فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيِّنِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهَا، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَصَّلَ لَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَرَامًا فَلابد أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ مُفَصَّلًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ».
لَا شَيْءَ فِي الشَّرْعِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ:
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ كَوْنِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُوَافِقَةً لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ فَقَالَ:
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ مَا يُظَنُّ مُخَالَفَتُهُ لِلْقِيَاسِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ فِيهِ وَلابد إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ كَوْنُهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: طَهَارَةُ الْمَاءِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ، وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ وَالسَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْآكِلِ النَّاسِي وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَهَلْ ذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ. وَأَنَا أَذْكُرُ مَا حَصَّلْتُهُ مِنْ جَوَابِهِ بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ وَمَا فَتَحَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي بِيُمْنِ إِرْشَادِهِ وَبَرَكَةِ تَعْلِيمِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ وَتَفْهِيمِهِ.
«إِنَّ أَصْلَ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الطَّرْدِ وَالثَّانِي قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌّ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ، فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ، وَحَيْثُ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِحُكْمٍ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَهُ فَلابد أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعَ قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ. لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِ قِيَاسٍ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّ صُورَةَ النَّصِّ امْتَازَتْ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا مِثْلُهَا بِوَصْفٍ أَوْجَبَ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ لَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَكِنْ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ». انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ خَطَأَ مَنْ قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَيَانًا كَافِيًا شَافِيًا فِي عِدَّةِ فُصُولٍ ظَهَرَ بِهِ بُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ فُقَهَاءِ الْقِيَاسِ وَأُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ فَوَائِدَ نَفِيسَةً، مِنْهَا انْعِقَادُ الْعُقُودِ بِأَيِّ لَفْظٍ عَرَّفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا، وَأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحِدَّ لِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا، لَا النِّكَاحِ وَلَا غَيْرِهِ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ كَالصَّرِيحِ، وَمِنْهَا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَبُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا فُقَهَاءُ الْقِيَاسِ فِيهَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ يُسْرُ الشَّرِيعَةِ وَسَعَتُهَا وَمُوَافَقَتُهَا لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا مَا اسْتَشْكَلَهُ نُفَاةُ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ مِنْ تَفْرِيقِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ وَجَمْعِهَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَهَا، كَفَرْضِ الْغُسْلِ مِنَ الْمَنِيِّ الطَّاهِرِ دُونَ الْبَوْلِ النَّجِسِ وَمَا فِي حُكْمِهِ، وَكَذَا إِبْطَالُ الصِّيَامِ بِالِاسْتِمْنَاءِ، وَنَضْحُ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَغَسْلُهُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَإِيجَابُ إِعَادَةِ الصِّيَامِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمُ النَّظَرِ إِلَى الْحُرَّةِ وَلَوْ عَجُوزًا شَوْهَاءَ دُونَ الْأَمَةِ وَلَوْ شَابَّةً حَسْنَاءَ، وَقَطْعُ يَدِ سَارِقِ رُبْعِ دِينَارٍ دُونَ مُغْتَصِبِ أَلْفِ دِينَارٍ مَعَ جَعْلِ دِيَةِ الْيَدِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَفِي الْعُقُوبَاتِ، وَلَعَلَّهُ اسْتَوْفَى كُلَّ مَا بَلَغَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِسْهَابِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَفِي جَوَابِهِ أَوْ أَجْوِبَتِهِ هَذِهِ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِهَا وَبَيَانِ مُوَافَقَتِهَا لِلْعَقْلِ وَمَصَالِحِ الْبَشَرِ وَمِنْ خَطَأِ غُلَاةِ الْقِيَاسِيِّينَ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ طُلَّابِ عِلْمِ الشَّرْعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.
نَذْكُرُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ النَّمُوذَجِ، وَهِيَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ: إِنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وَحَفْنَةٍ، وَجَوَّزَ بَيْعَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ أَطَالَ فِي رَدِّ هَذَا بِمَا بَيَّنَ بِهِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ. فَنُلَخِّصُ ذَلِكَ بِجُمَلٍ وَجِيزَةٍ.